-
القسم
مقالات توعية وإرشاد
-
عنوان المقال
تاءات الحديث
-
كتابة
أميرة العزي
-
مراجعة
علي الأزرق
تاءات الحديث
بسم الله الرحمن الرحيم
في ظل تسارع الأحداث، والتباس الأمور على كثير من الناس، يقف المرء -أحيانًا- في مواقف يُلزم فيها بالكلام، وتدعوه الحاجة للبيان، وقد كثر المتحدثون بمختلف مذاهبهم ومشاربهم، واختلط الغث بالسمين، وانحرف الكثير عن الصراط المستقيم، وفي هذه الحال يُطرح سؤال: "كيف يتكلم المؤمن الفطن وسط هذه الأحداث؟"
في بادئ الأمر: لا بدّ أن نعلم أن الحديث عن الأحداث جزء لا يتجزأ من كيفية التعامل معها، فإن فقه المسلم كيف يتعامل معها = فَقِه كيف يتكلم بفطنة عنها؛ وإنما خصصنا الكلام بحديث مستقل لعلاقته باللسان، "فاللسان من النعم العظيمة، صغير جرمه، عظيم طاعته وجرمه، رحب الميدان ليس له مرد، ولا لمجاله منتهى وحدّ، له في الخير مجال، وله في الشر ذيل سحب، فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار، إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع..."¹ فأقول والله المستعان:
قبل أن يتصدر المسلم للتكلم في قضية من القضايا -أو في أي شيء عمومًا- لا بدّ له من الإعداد القبلي، وما يحتاجه يتلخص في أربع تاءات (تعلُّم، تبيُّن، تجميع، توقف) وتفصيلها ما يلي:
تعلُّم: ونقصد بذلك أن يدرس المرء القضية التي يريد التحدث عنها من مبدأها إلى منتهاها، من أسبابها إلى نتائجها، أن يحيط بها من جميع وجوهها، فإن الحديث بغير علم مستنكر عقلًا منهي عنه شرعًا، قال تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾فقد "نَهى جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَنِ اتِّباعِ الإنْسانِ ما لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، ويَشْمَلُ ذَلِكَ قَوْلَهُ: رَأيْتُ، ولَمْ يَرَ، وسَمِعْتُ، ولَمْ يَسْمَعْ، وعَلِمْتُ، ولَمْ يَعْلَمْ. ويَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ قَوْلٍ بِلا عِلْمٍ..."²
وبالمجمل: لا ينبغي للمسلم أن يتحدث عن أمر ليست له معرفة كافية به، ولا عن أمر لا يتذكر وقائعه بشكل صحيح، ولا عمّا لا علم له به، ولكن يتحدث -إذا تحدث- بعلم، وإلا، ففي الصمت السلامة.
التَّبيُّن: ونقصد به أن يتثبت المسلم مما سيقوله قبل أن يقوله، فلا يقول كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية، ولا يحكم حكمًا ولا يبرم أمرًا إلا وقد تثبّت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، قال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: ﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾
"فيه مِن الأدَبِ الأخلاقيِّ أنَّ المرءَ لا يقولُ بلِسانِه إلَّا ما يعلَمُه ويتحَقَّقُه، وإلَّا فهو أحدُ رجُلين: أَفِنُ الرأيِ، يقولُ الشَّيءَ قبْلَ أن يتبيَّنَ له الأمرُ، فيُوشِكُ أن يقولَ الكَذِبَ فيَحسَبَه النَّاسُ كذَّابًا، وفي الحديثِ: (كفَى بالمرءِ كذبًا أن يحَدِّثَ بكُلِّ ما سمِعَ)، أو رجُلٌ مُمَوِّهٌ مُراءٍ، يقولُ ما يعتَقِدُ خِلافَه ... وفي الحديثِ: (آيةُ المنافقِ ثلاثٌ: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخلفَ، وإذا ائتُمِنَ خان)"³ والتثبت يكون مما سيقوله هل بُني على أدلة صحيحة سليمة في ذاتها ونتائجها، أم لا؟ ويثبت من سلامة من ينقل عنهم، ومن يسمع لهم قبل أن يبني حكمه على قولهم.
وبالمجمل: "التثبت من كل الأخبار والأحداث قبل الحكم عليها هو منهج الإسلام الدقيق، حيث إن تلقّف الأخبار بغير تبين وتروي قد يحيلها أحيانًا إلى غير مقاصدها، وينتج عنها بعد ذلك خطر عظيم، والاستماع إلى الكذب لا يجوز؛ لأن مداومة الاستماع إليه مدعاة لتصديقه وترديده وترويجه بين الناس، وقد يلتقط بعض السامعين الأحاديث الكاذبة، ويرويها دون أن يبيّن حقيقتها، فيأخذها غيره ويرويها على أنها أحاديث صادقة وحقائق واقعة، وقد يؤدي الاستماع إلى الباطل والأكاذيب إلى استقرار شيء منها في النفس ولو بدون قصد."⁴
أما التاءات الأخرى، التجميع: ونقصد به أن ينطلق المؤمن بحديثه من صورة مكتملة غير مجتزأة، يتحدث وهو مستحضر أممية القضية وأنها جزء من قضايا الأمة وليست القضية الوحيدة، ونقصد به: أن لو أشكل أمر عليه أو اشتبه عليه فيرد المتشابه للمحكم، والفرع للأصل، بحيث يبني كلامه وحكمه على منهجية صحيحة واضحة، وصورة متكاملة.
أما التوقف: فنقصد به أن يتوقف عن الكلام فيما لا يُحسنه أو ما لا يعلمه أو فيما أشكل عليه ولم يجد له مرجحًا، فذلك أسلم له وأغنم، وهذه القواعد من القواعد الشرعية التي يجب على المؤمن العمل بها في حياته.
وختامًا: إن لم يكن المؤمن صادقًا أمينًا عدلًا فيما يقوله فقد أهلك نفسه، وعاجلها بالعقوبة.
-----------
١] إحياء علوم الدين.
٢] أضواء البيان.
٣] التحرير والتنوير.
٤] بتصرف