• القسم
    مقالات توعية وإرشاد
  • عنوان المقال
    التفاهة في زمن الحداثة
  • كتابة
    أسامة حمود
  • مراجعة
    أميرة العزي

التفاهة في زمن الحداثة

Course Image

في عصـرٍ يفيض بالتكنولوجيا والمعلومات، وعالمٍ يغمره الضجيج، تتهاوى قيمُ الأفراد، وتتداخل مفاهيمٌ أساسية، فتُطوى الحقيقة تحت رداء التفاهة، فأصبحنا نتجرع من كأس يختلط فيه الغث بالسمين، وأصبحت التفاهة طاغية على تفاصيل حيواتنا كريحٍ هوجاء، حتى تلاشت قيم الحق والمعرفة؛ فانشغلنا بما لا ينفع، وسُرق منا زهو الحكمة وعمق المعرفة، ولهث البعض للمتابعة العمياء لأقوالٍ بلا أساس، ومظاهر خادعة، وأحاديثٍ فارغة، والمشاركة في أنشطة جوفاء تخلو من القيم، بينما تغيب عنهم جوهرة المعنى ورزانة الفكر، وكأننا نعيش ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: ( قبل الساعة سنون خدَّاعة، يكذّب فيه الصادق، ويصدّق فيها الكاذب، ويخون فيها الأمين، ويُؤتمن الخائن، وينطق فيها الرويبضة)، نهاية البداية والنهاية لابن كثير، الصفحة أو الرقم 214/1.

وفي خضم هذا الزخم الكبير، تتجلى الآيات القرآنية إلى نبذ اللَّغو والتَّفاهات، كما قال الله تعالى: [والذين هم عن اللغو معرضون] (سورة المؤمنون:3)، فترشدنا الآية الكريمة إلى السمو بالنفس والروح عما يغوي العقول ويدفعها للانهماك في أمور لا طائل منها، إذ تعدّ استنزافاً للوقت والطاقة.

وفي يوم الناس هذا، تحولت التفاهة من ظاهرة اجتماعية إلى سمة شخصية تقتلع جذور الفكر، حيث أصبح الناس يتباهون بما يغوي العقول الساذجة، ويتنافسون في الاستعراض بدلاً من التفكّر والإنتاج، وازداد ذلك خطورةً بتقبل المجتمع لهذه السطحية، وإعطائها مساحةً تُسلب من الفائدة، فمتى نواجه هذا المدّ من التفاهة ونستعيد الرصانة ونوجه البوصلة نحو أهدافٍ أسمى وغاياتٍ أعظم؟

والتفاهة في أبسط تعريف لها، هي الانشغال بأمور جوفاء لا فائدة حقيقية منها، تظهر لمعاناً من الخارج لكنها خاوية من الداخل، وليست التفاهة مجرد غياب العمق أو سطحية المظهر، بل غياب المعنى والهدف، وانسياب الزمن، وضياع الوعي، وتمجيدُ الزائل والمستهلك، وتململ الفكر في الفراغ، وانشغال واستغراق الروح في الهامش، وملاحقة العناوين البراقة، والاحتفاء بالشعارات الصاخبة، والغرق في بحر الأخبار السطحية التي تجرف الوعي كما تجرف المياه الضحلة الرمال.

وظهرت التفاهة في المجتمعات الحديثة كظاهرة متجذرة تستبدل الثقافة بلهوٍ عابر! حيث حكى الفارابي عن التفاهة بأنها: "محطمة للعقل، مميتة للضمير"، يصبح عندها الفرد كائناً مستهلكاً بدلاً من أن يكون مفكراً ومبدعاً، ويرى نيل بوستمان أن المجتمعات الحديثة أصبحت تتلهّى بمستويات سطحية تثير الاهتمام وتفتقر إلى القيمة، فقال في كتابه التسلية حتى الموت: "نحن نسير في عالم يغرق في السخافات"، ووصفها الفيلسوف إبكتيوس بأنها: "قيدٌ يغوي النفوس الساذجة، ويبعدها عن نور العقل"، فنرى أنها لا تترك الإنسان حراً في تفكيره، بل تُغرقه في دوامة اللامعنى، وتُطال كل زاوية، من الأدب إلى الإعلام، ومن الثقافة إلى العلاقات الإنسانية.

ومع تطور التكنولوجيا ووسائل الإعلام الحديثة، أضحت التفاهة كالريح العاتية التي تنقل أزهاراً بلا عطر، تلهي العقول بما لا يسمن ولا يغني من جوع، وأسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تحويل التفاهة إلى جزء لا يتجزأ من يومياتنا، فالناس يتنافسون عبر الشاشات على الشهرة بعرض محتويات سطحية على مسـرح تافه، تتراكم فيه الصور الفارغة، ويظهر فيه المحتوى المثير أكثر جاذبية من المضمون العميق.

وليس من الصعب أن نتساءل: ما الذي حملنا أيضاً على هذا السقوط في هوة التفاهة ؟ لعل الجواب يكمن في أن ثقافة المحتوى السـريع والإعجاب العابر استبدلت العمق بالتفاهة، حيث أصبح الناس يسعون لجمع الإعجابات "اللايكات" دون وعي بما يقدمونه، وتلعب وسائل التواصل والإعلام درواً كبيراً وبارزاً في تعزيز هذا الاتجاه عبر الترويج لما يُنسى بسـرعة، وانشغل الناس بمظاهر الحياة المادية، فيسـرعون دوماً لشـراء أشياء ضرورية لمواكبة طموح الظهور الخارجي، وساهمت كل تلك العوامل في جعل التفاهة وباءً ينتشـر دون رادع، يجذب العامة نحوها ويبعدهم عن التفكير، وكأن التفاهة أصبحت لغة التفاهم بين الجميع!

ولا شك أيضاً أن ثقافة الاستهلاك اجتاحت عقولنا، فحولتنا إلى مجرد آلات تَستهلِك وتُستهلَك، وفي يوم الناس هذا، أصبحنا نغذي رغباتنا بأشياء لا تنتهي، وتغذي ثقافة الاستهلاك أفقنا الضيق حتى لم نعد نرى إلا ما هو قابل للاستهلاك والمحو، فلا يولي أحدٌ اهتمامًا لما هو أبدي أو ثابت، وأصبحنا أسرى لهذا الاستهلاك الزائف، الذي لا يعرف كيف يُرضي الروح أو يُشبع العقول، حتى أضحينا في عالم ملوث بالضجيج الكاذب، ولا شيء يوقف تلك الآلة المتسارعة سوى الضياع في المزيد من التفاهة والفوضى.

والإسلام يدعو المسلم إلى السمو والابتعاد عن مواطن اللغو والتفاهات؛ لما لذلك من حماية للنفس والروح وصونٍ للعقل، فيبتعدون عن كل ما يسـرق وقتهم ويبعدهم عن ذكر الله والتأمل في خلقه، فوصف المؤمنين به حقاً بذلك، فقال: [والذين هم عن اللغو معرضون](المؤمنون:3)، وبينها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنها مما يحسّن إسلام الفرد، فقال: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، الآداب للبيهقي/510، فبين أهمية التركيز على ما يسهم في بناء الإنسان وترك الأمور التي لا جدوى منها.

والتفاهة تترك آثاراً سلبية على مستوى الفرد والمجتمع، فتفقد الإنسان إحساسه بالمسؤولية وتهدر وقته، فيجد نفسه معزولاً عن التفكير السليم، منشغلاً بالأمور السطحية التي تقيد عقله وتضعف حكمته، وتمنعه من تطوير ذاته، ويكون غرضاً للتقليد الأعمى بدلاً من الإبداع، وأما على مستوى المجتمع فإن التفاهة تضعف التماسك الاجتماعي، حيث يُقدّر الناس وفقاً لمظاهرهم الزائفة، وليس وفقاً لعمق أفكارهم وإسهاماتهم الحقيقية؛ فيُهمش العلم والفكر، وتقل الإنتاجية، وتضعف القدرة على مواجهة التحديات.

لمواجهة التفاهة، ينبغي للجميع أن يتوجهوا نحو التحصيل العلمي وتنمية الوعي النقدي؛ لأن الحل النهائي يكمن في تعزيز ثقافة العلم والتعلّم، وغرس قيم التفكّر العميق في النفوس، والتفريق بين القيمة والحشو، كما لابد من إنشاء محتويات إعلامية هادفة تلبي احتياجات المجتمع في الوقت الراهن، وتقدم بدائل ترفيهية تساهم في تثقيف الناس وتوعيتهم بآثار التفاهة وضرورة الانشغال بما ينفع في بناء المجتمع، عندها يدرك الفرد مسؤوليته في تجنب الانحراف، ويسعى لاستغلال وقته وتطوير ذاته، ويتنافس المتنافسون في الجد والنفع.

التفاهة ليست سلوكاً عابراً فحسب، بل تحدياً حضارياً يواجهنا كمجتمع معاصر، والابتعاد عنها والسمو بالنفس ليس ترفاً، بل ضرورة للحفاظ على الهُوية والقيم الإسلامية، ومسؤوليتنا تكمن في إعادة النظر في أولوياتنا، وأن نكون على وعي بما نتابع ونشارك فيه، فلنسهم في بناء مجتمع إسلامي واعٍ ومتزن، فالوقت أثمن من أن يُهدر، ولحظات الحياة قصيرة.