• القسم
    مقالات توعية وإرشاد
  • عنوان المقال
    الفراغات البينية
  • كتابة
    أسامة البركاني
  • مراجعة
    سلام الزبيري

الفراغات البينية

Course Image

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله الكريم وصحابته النُجبَى أولي الفضل والنهى.


الحمدلله على نعمة الاسلام وكفى بها نعمة.


وبعدُ أخ التوحيد؛ فإنه من ما ينبغي أن يُعقد في قلب كل مسلم لاسيما شباب الإسلام مسألة استغلال الوقت إستغلالاً فعَّالا ينتج عنه انعكاسات إيجابية ذات قيمة وفائدة ونفع إما في الحياة الدنيا -ويشمل هذا شتى جوانب الحياة-، وإما في الحياة الآخرة ومايترتب عليها من الأجر والثواب الموعود، وهذا ما يُجسد الأثر المذكور عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه حيث قال: إني لأكره أن أرى الرجل سبهللا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة ، ومثله في المعنى والألفاظ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إني لأمقت الرجل أراه فارغا ليس في شيء من عمل دنيا ولا آخرة...


فهذا هو دأبنا معشر المسلمين إستغلالاً للوقت في ما يعود علينا بالنفع إما في دنيا أو في آخرة.
ذلك لأن رأس مال المسلم، ومِلاكُ أمره كله هو الوقت، فإذا ذهب وقته ذهب رأس ماله، وذروة سنام أمره، ودرته الثمينة، ذهاباً لا إياب بعده.
ولعمري ما نحن إلا أيامُ وساعاتُ ولحظاتُ، فإذا ذهب منَّا البعض كاد أن يذهب الكل، ولكن السؤال المحوري ليس ها هنا إنما السؤال هو ماذا قدمنا؟! ماذا انتجنا؟! وبماذا ساهمنا؟! خاصةً وأن سائر أعمال المرء ومساهماته ومشاركاته سواء كانت كبيرة أم صغير قليلة أم كثير مُنتجة أم غير منتجة؛ تبقى بعد موته شاهداً عيانًا على ما كان يعتقده ويتبناه من أفكار ورؤى.


ولكن مانراه ونعانيه اليوم، وبشكل يدعو إلى القلق، والأسف أحياناً، من التساهل المفرط بالوقت والذي يكاد يكون عند بعض الشباب من المسلمات الحياتية التي لا جدال فيها ولا مِراء، لهو وايم الله من الطوام العظام والمعضلات الجسام، ونذير شؤم يحلق في الأفق بنازلة يشيب لها الولدان، إذ أنه كيف لمن يُعَول عليهم إقامة أركان هذه الأمة، ومن اُلقيى على عواتقهم حمل رسالتها، ورفع رايتها، والدفاع عن مقدساتها أن يكونوا بهذا المستوى الضحل من الجهل بألف باء بناء الشخصية المسلمة الفعّالة المنتجة، ومن التساهل المخزي والمندي للجبين بأس الأمر وأساسه.


ولا يخفى على القارئ الكريم أن هناك الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التى عُنيت بحفظ الوقت أيُما عناية وإدارته بشكل صحيح؛ إما تصريحًا باللفظ وإما تلميحًا به، ونستشهد هاهنا بحديث واحد وهو جامعٌ شاملٌ كاملٌ يُلخص المسؤولية والعبء الثقيل الذي يجب أن يستحضره كل مسلم -وخاصةً شباب الإسلام- ليل نهار ولا بد ولا مناص من ذلك فقد روى بالأثر عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (حاسبوا انفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالك قبل أن توزن عليكم) وهذا - أي استحضار عظمة معاني حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام- ضربًا من ضروب حساب النفس ووزن الأعمال قبل أن نرد على الله مفاليس...


فقد أخرج الإمام الترمذي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيما أنفقه ، وماذا عمل فيما علم ؟ "

عن عمره في ما أفناه!!
أليس الشباب قطعة من العمر؟!!
بلا!!

ولكن لمرحلة الشباب سؤال منفرد بحد ذاته ضمن إطار السؤال عن العمر بشكل عام، وهذا إن دل فإنما يدل على أمر واحد ألا وهو عِظم أهمية هذه الفترة الوجيزة من العمر التى لا تُتاح في العمر كله إلا مرة واحدة فقط، ففيها يكون التحصيل والقوة والبناء في أوجه وفي ذروته، وقد يُتأتى من العلم، والبناء والتحصيل والفهم وتوفر الوقت في هذه الحقبة من العمر ما لا يُتأتى في غيرها من الحقب.


وسيكون كلامنا عن العمر عامة وعن الشباب خاصة لما له من أهمية بالغة ومكانة سامة، ولا تخفى هذه الأهمية عن من تأمل كلام الله عز وجل وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير موضع، وكذا من تتبع أخبار الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم فسيرى من حالهم عجب العجاب؛ فقد نصر الله بهم الدين وهم أبناء السادسة عشر، و الثامنة عشر، والتاسعة عشر، وهناك من هم أدنى من ذلك في العمر رضوان الله عليهم أجمعين.


أخي الذي أحب له ما أحب لنفسي؛ ما أروم الوصول إليه مما سبق ذكره أنفًا هو أن هناك أوقات من أعمارنا قد تكون بالدقائق أو الساعات وربما بالأيام تهدر وتوأد وتضاع ولا تُراعى حق رعايتها ولا يُأبه لها -وهنا يكمن الخطر- أن تذهب جل أعمارنا في أمور لا نأبه لها أصلا او قد تكون أموراً ليس بها كثير فائدة ونفع....


ألا وإن من مداخل الشيطان في إضاعة حقبة من الزمن من أعمارنا ليست باليسيرة؛ هو إضاعة الوقت بين الفراغات البينية - وهذا هو لب المقال الذي بين يديك - ، والمقصود بالوقت بين الفراغات البينية هو الوقت الذي يكون بين أمرين وقد يُقدر هذا الوقت بالدقائق أو الساعات أو الأيام، وهذه الفراغات البينية تتباين حسب ما عليه المرء فمنهم من يُقضي جُل حياته بين أمرين أو أكثر ويغفل عن الفراغ الذي يهدر بين هذين الأمرين فلا يفتح عينيه إلا وقد تصّرم عمره وأنقضت لحظات حياته واحدودب ظهره، واغرورقت عيناه، واشتعل شعر رأسه بالشيب، وأفلت شمس شبابه ونشاطه وأزفت ساعة رحيله. حينها ينادي ويصرخ بأعلى الصوت بالعودة لماضيه وشبابه، ولا تسمع منه إلا الآهات والحسرة والندامة!! ولكن هيهات هيهات، فقد ذهبت تلكم الأزمان والأوقات ذهابا بلا عودة ودونت بما حُمّلت وأستُنزفت وشُغلت به في صحيفة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة.
وإذا جمعنا هذه الأوقات التى لربما تقضى بغير منفعة تذكر -بل قد تكون وبالًا على أحدنا في سجل أعماله- على مدى عمرا كامل لأحدنا لبلغت السنوات الطوال، وهذه السنوات التى اُضيعت هدرا كفيلة بأن تصنع وتعد لنا لبنة من لبنات بناء وتشيد حضارة الإسلام التليدة.


أخي القارئ الكريم؛ إن فارق الثوان في حياتي وحياتك هو كنز عظيم وإن صح التعبير فهو -كنزٌ مفقود- فهو متاح للجميع ولكن وللأسف الشديد قليل جدا منا من يحسن إستغلاله إستغلالاً -فعالًا نافعًا ناجعًا-


وكلنا نعرف قصة الصحابي الجليل عُكَّاشة بن محصن -رضي الله عنه- في حديث السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابق عذاب، فلم يكن بين سؤاله -لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وسؤال الصحابي الآخر إلا ثوان معدودة، فكانت الفيصل بين أثنين أحدهما يدخل الجنة بغير حساب ولا سابق عذاب والأخر قد سبقه بها عُكَّاشة - رضي الله عنهما وأرضاهما - .
وعلنا نتطرق لمثالين حيين بين أظهرنا في هذه الحقبة من الزمن -ومن أمثالهما الكثير الكثير- ولكني أذكرهما هاهنا على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، ولأن لهما بصمة فارقة في حياتي وفي قلب موازين أفكاري ومنهجي وسيري -وأسال الله أن يسددهما ويوفقهما لخيري الدنيا والآخرة-...
هما الدكتور إياد قنيبي - بروفيسور في علم الأدوية الجزيئي -، والدكتور راغب السرجاني - دكتوراة في جراحة المسالك البولية - ، ومؤسس - موقع قصة إسلام - الذي يُعد من أكبر وأضخم المواقع المتخصصة بعرض التاريخ الإسلامي....


فالدكتور إياد قنيبي يقول عن نفسه أن من ساهم مساهمة أساسية في بنائه المنهجي والعلمي هو قضائه ساعات المسافة إلى الجامعة بما يعود عليه بالنفع، فقد كان يستغل هذا الوقت بالقراءة أو سماع الدروس، وها هو الآن مثال وقدوة يُحتذى به في بعث وإحياء روح عزة وأنفة المسلم القوي الموحد - نحسبه كذلك والله حسيبه -
وأما من رأى في تأليفات الدكتور راغب السرجاني، ومحاضراته عن التاريخ عمومًا، والتاريخ الأسلامي خصوصًا فسيرى عجبًا، هذا مع مزاولته لمهنة الطب والجراحة، حتى أن بعض الناس تعجبوا من حاله وظنوا أنه قد ترك الطب والجراحة...

ولكن مالذي فعله د. راغب حتى ألم بهذا كله، في حقيقة الأمر مافعله ليس بالشيء الغريب أو الخارق للعادة، هي ساعتين في اليوم -كانتا شرارة بدايته ولبنتا بنائه المنهجي والعلمي - كرسهما لتعلم التاريخ والعلم الشرعي، وهاتين الساعتين هما ذاتهما التي يضيعهما كثير منا بمشاهدة مباراة كرة القدم- أفيون الشعوب - أو غيرها من الملهيات الممنهجة لإلهاء شباب هذه الأمة وحرف مسارها عن الجادة...
أرأيت اُخي!!


هو فارق الوقت وإستغلاله كما ينبغي بما ينبغي، وأظن أن هذا لن يُتأتى بليلة وضحها بل ينبغي لأحدنا أن تكون له همة تناطح قمم الجبال، وتعانق نجوم الثريا؛ كي يُعمل ويَعمر هذه الأوقات التي من شأنها أن تساهم في بناء شخصية المسلم القوي في علمه ودينه وشأنه كله....


ختامًا أخي القارئ الحبيب؛ يكفيك ويغنيك عن كلامي كله تأمل حديث واحد -لرسول الله صلى الله عليه وسلم-
أدعك الآن أخي القارئ مع هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله ﷺ : الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ...