-
القسم
مقالات نقد التيارات المعاصرة
-
عنوان المقال
مسخ الهُوية
-
كتابة
أميرة العزي
-
مراجعة
علي الأزرق
مسخ الهُوية
بسم الله الرحمن الرحيم
تسمع أحدهم يتحدث في الأحكام الشرعية، فيُضعف ويُصحح ويَجرح ويُعدِّل، ويخبرك الراجح في المسألة الفلانية والمرجوح منها، ويخبرك لمن تسمع وعمن تصد فيُشعرك أنك تجالس عالمًا ربانيًا ومجتهدا فذَّا، إلا أن ما يجعلك في ريب منه رطانة ألفاظه وإن كان دمه يوحي بعروبته، ويُقوي شكوك فيه رفضه أحكامًا شرعية صريحة؛ لأنها -بنظره- لا تتناسب مع العقل، وأنه لا يعقل أن نكون في القرن الواحد والعشرين ونحن نستند على ما نقل من قبل أربعة عشر قرنا!
إن هذا المشهد -لأمرء مسلم ليس له من الإسلام إلا ما تركه دون لَيّ نصوصه، وليس له من اللسان العربي إلا بضع كلمات مشوهة- يعد صورة من صور "مسخ الهُوية" في حاضر الشباب المسلم، ولم يحدث خلال عمر الأمة أن عانى شبابها من مشكلة في هويتهم قط، إلا في حاضرها، فما الهُوية؟ وما ركائزها؟ وما أسباب ضياعها؟ وكيف تستعاد؟
ما الهوية؟
الهُوية -بضم الهاء- منسوبة إلى "هُوَ" وهي "المعنى الذي يصير به الشيء ممتازا عن الغير، بحيث يميّز، ولا يشاركه شيء آخر، وصفة تمنع وقوع الشركة بين موصوفيها"¹
وهوية الشعب: ما لا يُشارَك فيه من صفات معنوية، والصفات المعنوية التي تتمايز بها الشعوب هي الثقافة، والثقافة هي: جوانب الحياة الإنسانية التي تُكتسب بالتعلم لا بالوراثة²، وهي جِماع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز فئة من الناس بعينها، وتشمل الفنون، والآداب، وطرائق الحياة، كما تشمل حقوق الإنسان، ونُظُم القيم، والمعتقدات، والمعرفة، والأخلاق، والرموز، والقانون، والنظرة إلى الكون والحياة والموت، والإنسان ومهامِّه وقدراته وحدوده، وما ينبغي أن يعمل، وما لا ينبغي أن يعمل، والعادات التي يكتسبها من حيث هو فرد من جماعة.³
وهوية المسلم وركزيته الأولى: تتمثل في دينه وما جاء به من تعاليم؛ لأن الإسلام هو الذي يحكم جميع جوانب الحياة. فالهوية تعني كامل الانتماء بكل أبعاده المادية والمعنوية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ولا تقتصر على مجرد الانتماء العصبي أو القبلي أو العنصري أو الجغرافي⁴، فهي تكامل نفسي فكري⁵، وانتماء جاء تحقيقًا وتطبيقًا لقول الله تعالى: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾⁶، فالصبغة هي الهوية، والهوية هي الإسلام⁷، والإسلام يصبغ الإنسان بصبغة خاصة في عقيدته وفكره ومشاعره وتصوراته وآماله وأهدافه وسلوكه وأعماله⁸، قال القرطبي في تفسيره للآية السابقة: "فسمى الدين صبغة استعارة ومجازًا حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب."⁹
أما الركيزة الثانية فهي اللغة العربية، والارتباط بين الركيزتين هو أمر واضح وجليّ إذ أن اللغة هي وعاء الدين الذي حمل فيه، فاللغة العربية لغة دين وفكر وعقيدة، وكلما نقص حظ المرء من العربية نقص حظه من فهم الدين، ومن تعلمها كانت له قربة يتقرب بها لله.¹⁰
ثالث ركيزة هي: التراث الثقافي ذو المدى الطويل، المرتبط بوجود المسلم بفكره وقيمه وعاداته وتقاليده.¹¹
ويمكن تلخيص ذلك كله بتعريف الدكتور عبد الكريم بكار للهوية حين قال: "الهوية هي مجموعة العقائد والمبادئ والخصائص والترميزات التي تجعل أمة ما تشعر بمغايرتها للأمم الأخرى، والإسلام بعقائده وأركانه وأحكامه يشكل أساس الهوية الإسلامية. وللروافد التاريخية والجغرافية واللغوية والثقافية المختلفة دور مهم في بناء الهوية."¹²
أما ضياع الهُوية فليست وليدة ليلة وضحاها، إنما دق على جدار الأمة الأسباب الداخلية حتى تكسر أغلبه، وما كانت الأسباب الخارجية لتضر لو لم تجد حاضنة داخلية، فعندما بدأ الوهن يتطرق إلى الأمة الإسلامية من قبل نفسها، وعندما انتقلت مراكز القوة من الدولة الإسلامية إلى أوروبا، كانت هذه هي المقدمة لضياع الهُوية، وكان تقدم الغرب وانحطاط المسلمين سببًا من أسباب فقدان الهُوية، والجهل المنتشر بين شباب الأمة بدينهم وهويتهم نتيجة التجهيل العمد سببًا من أسباب ضياع الهُوية، وإن الفجوة بين النخب المثقف وبين العامة، وتصدر كثير ممن يسمون أنفسهم ظلما "تنويريون" "حداثيون"...إلخ وغياب القدوات والمصلحين سببًا من أسباب ضياع الهُوية، وإن التعليم العربي ومناهجه الفاسدة سببًا من الأسباب... وإن الأسباب كثيرة لا تُحصى في مقالة صغيرة إلا أن على المرء أن يعي عِظم ما فقد ويسعى لاستعادته فيعرف الحق الذي هو عليه، ويعزز يقينه به، وينشر الوعي، ويتخير قدواته، ويتعلم دينه، ويسعى لنفع أمته
الهامش:
[1] التعريفات
[2] علم الاجتماع، ٨٢
[3] مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ٣٠، والمسألة الثقافية في الوطن العربي، ٢١٣، ومستقبل اللغة العربية بين محاربة الأعداء وإرادة السماء، ٩٥.
[4] د/ محمد النبهان، أزمة البحث عن هوية في مواجهة الحضارة الغربية، المسلمون وحوار الحضارات في العالم المعاصر، مؤسسة آل البيت المجتمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، الدورة العاشرة.
[5] جمال سلطان، ندوة عن "هويتنا الإسلامية" بين التحديات والانطلاق "الحلقة الثانية"، مجلة البيان،_ _العدد 129، جمادى الأولى، 1419هـ.
[6] سورة البقرة: 138
[7] د/ سليمان العقيل، بعض مؤشرات الحفاظ على الهوية، مجلة الملك سعود، المجلد 16، ص43.
[8] د/ عمر الأشقر، معالم الشخصية الإسلامية، ص19.
[9] محمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 2/144.
[10] لمزيد اطلاع حول علاقة اللغة بالهوية يرجع إلى سلسلة "الحرب الباردة على الكينونة العربية، د. مختار الغوث"
[11] د/ أحمد عبد السلام، الاتصال اللغوي بين الشباب المسلم في ظروف العولمة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، بحوث المؤتمر العالمي التاسع، ص411.
[12] أ.د/ عبدالكريم بكار، تجديد الوعي، ص69-70.